وفاة حزب البعث..
للتعازي اتصلوا بالدكتور بشار..!
لا أعرف كم حزب بعث يوجد في العالم العربي، ولكن حزبا يحمل الإسم نفسه يوجد في سورية. وهو يحكم منذ نصف قرن تقريبا.
وهو يقول انه يسعى الى بعث شيء يصعب على المرء أن يعرف طبيعته الحقيقية، إلا انه في الأدبيات المتداولة يتحدث عن بعث الأمة العربية كأمة واحدة، بوصفها أمة ذات رسالة خالدة. ولكنه لم يبعث من هذا البعث أي شيء. ولقد رأينا وحدة وتحالفا استراتيجيا مع إيران ومشروعها التوسعي الفارسي، إلا اننا لم نر وحدة عربية، ولا تحالفا بنفس المستوى من القوة مع أي دولة عربية.
والفرس ليسوا عربا. ومشروعهم في الاسلام يقوم على تمزيق الأمة العربية على أساس طائفي. وهم عندما تمكنوا، بالتحالف مع الشيطان الأكبر، أن يسيطروا على العراق ويفرضوا حكومة طائفية فيه، فقد ارتكبوا من الأعمال أكثرها فظاعة ضد ملايين العرب. ووقف حزب البعث في سورية لصاحبه الدكتور بشار الأسد ليس موقف المتفرج، بل الداعم للمشروع الطائفي الفارسي.
ولم يدفع هذا المنزلق، ذلك الشيء الذي يدعى حزب البعث، الى إثارة أي أسئلة حيال ما يرتكبه التحالف الامبريالي الفارسي ضد بلد عربي في الجوار. بل ان التواطؤ مع الجريمة كان هو العنوان الوحيد لسياسات البعث في سورية، حتى حيال بعث آخر، بقي يقاوم الغزاة، وكان يفترض أن يكون حزبا شقيقا.
قصارى القول من هذا، إن الحزب السوري يرفع شعارات تبدأ بالوحدة والحرية والإشتراكية.
ولكننا بعد نصف قرن من السلطة، لم نر وحدة ولا حرية ولا إشتراكية.
في الواقع، فاذا كان للتظاهرات التي تجتاح مدن البلاد أية دلالات فهي ان الناس قد ضاقوا ذرعا بسلطة القهر والكبت والاستبداد وانعدام الحرية.
وكم كان يجب أن يسأل هذا الحزب نفسه، ماذا أوجد من الحرية، في بلاد لا حرية للقول فيها، ولا حرية للصحافة، ولا حرية للاجتماع السلمي.
هل يستطيع هذا الحزب، بعد نصف قرن من الاستبداد، القول انه حزب حرية؟
وبعد أن أدخلت سلطته عشرات، بل ربما مئات الآلاف من الناس في غياهب السجون، هل يستطيع القول انه حزب حرية.
وإذا كان هذا الحزب لا يعرف ان الناس يتعرضون في سجون سلطته لأعمال التعذيب، فتلك مصيبة، وإذا كان يعرف ما يجري في السجون من الانتهاكات فالمصيبة أعظم.
وبالأحرى، يكاد الكل يعرف ان هذا الحزب لا يعدو كونه منظمة أمنية، وليس حزبا. لأنك إذا أخذت الأمر انطلاقا من التعريف، فان تعريف الحزب لا ينطبق على هذا الحزب. لانه بكل بساطة جهاز أمن مجرد. نعم توجد لدية بضعة خرق أيديولوجية. إلا أن الأيديولوجية لا تصنع من جهاز الأمن حزبا.
وأكثر سوءا من انعدام الحرية فان إشتراكيته نكتة تثير البكاء أكثر مما تثير الضحك. ليس لان البلاد تحكم بقوانين مضادة، وليس لان الإجراءات التي تتخذها لا تتطابق مع القيم الاشتراكية، بل لأن الاقتصاد السائد هو اقتصاد الغابة، حيث يأكل القوي الضعيف، وحيث تستولي عصابة الفساد على كل ثروات البلاد، وحيث تتحول كل المصالح الى مصالح حفنة منتفعين. وهذا ما لا علاقة له بأي إشتراكية. ولو سمع الاشتراكيون، إن سلطة من هذا النوع تطلق على نفسها لقب الاشتراكية، للطموا على رؤوسهم ولتبرأوا من الاشتراكية.
الآن. بعد نصف قرن من الزمان، فنحن لا ندري، ولا الشعب السوري يدري، كم من الزمان يريد هذا الحزب أن يحكم ليخبرنا انه فشل.
السؤال الأكثر حرارة الذي يحسن الإلتفات اليه هو: هل يرتبط هذا الحزب بمصالح الناس؟ هل يمثلها؟ هل يستطيع أن يجس نبض الشارع؟ هل يرى المتغيرات؟ هل يفهم متطلباتها أو ماذا تعني؟ هل هو حزب جماهيري حقا؟ أم انه حزب سلطة فحسب؟
وإذا اجتمعت لجانه وخلاياه، فعن ماذا تتحدث؟ وما هو الهدف الذي تسعى الى تحقيقه؟ وهل يجرؤ الأعضاء على أن يوجهوا لقيادتهم نقدا؟ أو أن يشكلوا قوة ضغط عليها لكي تتبنى سياسة أو تشق نهجا؟
وإذا كان الدور الأمني هو كل الوظيفة التي يؤديها هذا الحزب، فما هي قيمته؟ وهل يستحق البقاء أصلا؟ وأيُّ بعثٍ بعث؟
ما لم يكن الحزب، أي حزب، ضميرا للناس، ممثلا لمصالحهم، وراعيا لتطلعاتهم، فلا نفع فيه. وهو قد يكون أي شيء إلا انه لن يكون حزبا. قد يكون عصبة او عصابة او منظمة أمنية، إلا انه ليس حزبا، بل وقد يصعب أن تنطبق قيم التعددية الحزبية عليه.
لا يوجد حزب في الدنيا حَكَمَ، بصفة متواصلة، بمقدار ما حكم حزب البعث في سورية. ولكن لا يوجد حزب في الدنيا فشل كما فشل هذا الحزب. وما لم يكن هذا وحده سببا كافيا لإعادة النظر، فلا أدري كيف سيبرر هذا الحزب لنفسه الحق في البقاء.
نعم، ثمة فكر. والفكر، أيا كان، لا يزول. حتى الفكر النازي يمكنه أن يستمر. ولكن الشوفينية القومية التي يمثلها حزب البعث، والفشل الميداني في تحقيق الشعارات او حتى في السير على هديها، يهين هذا الحزب ويحط من قيمته بين الناس. ويدفعهم دفعا الى التخلي عنه.
مع ذلك، فان مشروعا قوميا كالمشروع الذي نتطلع اليه، ما يزال بحاجة الى فكر أكثر ارتباطا بمصالح الناس، وأكثر انتسابا لقيم العصر، وأكثر جرأة على قبول النقد، وأكثر استعدادا للتغيير. وهذا ما لا يستطيع حزب البعث السوري، ببنيته الراهنة، وبأخلاقياته المخابراتية، أن يتبناه.
وبوضوح، فقد فات هذا الحزب بالحيط، عندما رأى كيف تحولت سلطته الى سلطة دبابات وقمع جماعي.
ولقد فات بالحيط، عندما تحول الى حزب لكتاب التقارير وممارسة الوشايات وأعمال الفتن.
ولقد فات بالحيط عندما تحول الى حزب شبّيحة يقتلون الناس وينتهكون حقوقهم.
ولقد فات بالحيط، وتحطمت عربته كما لم تتحطم عربة أخرى، ولا أحسب إن أحدا خرج من هذا الحادث المؤسف ناجيا. وإنا لله وإنا اليه راجعون.
إقرأوا الفاتحة على روح المرحوم، حزب البعث الذي لم يبعث إلا القهر، حتى مات به.
ولإرسال التعازي، يرجى الاتصال بالدكتور بشار الأسد.